هارون الرشيد… بين الحقيقة والافتراء
كان وما يزال هارون الرشيد من أشهر الشخصيات الإسلامية وحتّى العالميّة التي عرفها التاريهخ ولهذه الشهرة أسباب كثيرة منها: تلك الحضارة الرائعة التي ازدهرت في عصره فأثمرت علماً وأدباً وغنىً لم يشهد له العالم مثيلاً، ومنها ما علق بسيرة هارون الرشيد نفسه من دسّ وافترءات مما نسجته أخيله بعض من يُسَمَوّن أدباء! مما يجعل من الصعب تكوين فكرة صحيحة عنه؛ فمن تقوى وورع وخوف من الله وغيرة على العِرض والدين إلى سكرٍ وعربدة وحبّ للنساء والغناء والتبذير.
فمن هو هارون الرشيد حقاً؟
ولد هارون الرشيد عام ١٤۸ﻫ (۷٦٥م) ونسبه ينتهي إلى عليّ بن عبد الله إبن عباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم. ولد وتربّى في بيت يحرص أهله على الدين، فجدّه المنصور أحد فقهاء عصره وأبوه المهدي من أشد الناس حبّاً للعلماء ومتابعةً لهم، فشبّ الرشيد في هذا الوسط تقياً صادقاً في عقيدته قوياً بإيمانه، ولقد درس على أيدي أئمة وأساتذة كبار أمثال أنس بن مالك وعلي بن حمزة الكسائي ابن أحد الشيوخ القراءات السبع، وجالس في شبابه فقهاء عصره من أمثال أبي يوسف القاضي وغيره وبقي على صلته بهم حتى آخر أيامه.
ورد عنه أنه كان يصلي في اليوم ١٠٠ ركعة عدا الفرائض (١) ويروي الأحاديث بأسانيدها ويوزع الصداقات على الفقراء بيده أو بأمرٍ منه، وحجَّ عدّة مرات وكان في كل حجة يصطحب معه ١٠٠ من الفقهاء على نفقته الخاصة، وفي السنة التي لا يحجّ فيها يُرسِل عِوضاً عنه ٣٠٠رجل. أما حركة الجهاد فلم تتعطل طوال أيام خلافته وهو الوحيد الذي عُرِفة بأنه (يغزو سنة ويحجّ سنة) وفي ذلك يقول الشاعر:
فمن يطلب لِقائه أو يُرِدْهُ ففي الحرمين أو أقصى الثغور
وكان لشدّة تمسكه بالدين يكره الجدال فيه، فلم يكن يسمح لأحد بالمناقشة في أصوله وفلسفته أمامه حرصاً على نصوص الدين من أن تعبث بها الآراء. يقول الإمام المؤرخ ابن كثير رحمه الله: روى له له أحد العلماء حديثاً في مجلسه عن النبي فاعترض عم الرشيد على ذلك الحديث فغضب الرشيد أشد الغضب وقال: "تعترض على الحديث؟! عَلَيَّ بالنطع والسيف"، وهَمَّ بقتله فقام الناس إليه يشفعون فيه فأمر بسجنه ولم يطلق سراحه حتى اعترف بخطئه واستغفر ربه وتاب (٢).
وقد أجمع الرواة والمؤرخون على أنه "من أرق الخلفاء وجهاً، وأكثرهم حياءً، وأخشعهم قلباً، وأغزرهم دمعاً عند الموعظة الحسنة" (٣) فكثيراً ما كان يسمع بواعظٍ زاهد فيأتيه بنفسه أو يستدعيه ويبكي بين يديه، سمع لابن السّماك والفُضيل بن عياض وعبد الله ابن المبارك وغيرهم وكانت تُؤَثِّر فيه الكلمة من أي فمٍ خرجت. روي عنه أنه استدعى أبا العتاهية يوماً وقد زخرف مجلسه بالطعام والشراب فقال له: صف لنا ما نحن فيه من النعيم، فقال أبو العتاهية:
عشْ ما بدا لك سالماً في ظلِّ شاهقة القصورِ
تَسعى عليك بما اشتهيتَ لدى الرَّواح إلى البُكورِ
فإن النفوسَ تقعقعت عن ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلمُ موقناً ما كنت إلاّ في غرور
فبكى الرشيد بكاءً شديداً فقال وزيره للشاعر: دعاك أمير المؤمنين لتسُرُه فأحزنته فقال له الرشيد: دعه، فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا.(٤) وكان يتقبل النصيحة من الجميع حتّى من عامة الناس ومجانينهم. فشتان ما بين خلفاء الأمس الذين غُرست العقيدة في نفوسهم وجُبلت قلوبهم على الإيمان، فتقبّلوا النصيحة برحابة صدر، وما بين عُبّاد المناصب والكراسي اليوم الذين ما عاد يهمهم رؤية أعراض المسلمين وهي تنهك وحرماتهم وهي تستباح ودينهم وهو يستهدف، وما عادت تؤثِّر فيهم مظاهرات واحتجاجات شعوبهم؛ ففاقد الشيء لا يعطيه لذلك ينطبق عليهم قول الشاعر:
لقد أَسمعتَ لو ناديتَ حياً ولكن لا حياةَ لمن تنادي.
والذي لا يختلف فيه أنَّ الرشيد كان يحب المِزاح والدعابة ولكن ضمن حدود الدين وله في بلاطه العديد من الظرفاء منهم ابن أبي مريم الذي كان من طُرفهِ أنَّ الرشيد كان يوماً يصلي الصبح إماماً وخلفه حاشيته فقرأ: ﴿ومالي لا أعبد الذي فطرني﴾؛ فأجابه ابن أبي مريم وهو مقتدٍ به "لا أدري والله" فما تمالك الرشيد من الضحك ثم التفت إليه غاضباً وقال: "في الصلاة أيضاً؟ ويحك"، وقال: "إيّاك والقرآن والدين ولك ما شئت بعدهما".(٥) وللأسف شمل المزاح اليوم كل شيء حتى الدين.
والرشيد كان يكره الإسراف والتبذير فمرة أقام أحد الأمراء وليمة على شرفه فقدّم له صحناً من ألسنة الطيور فاستنكره الرشيد وقال: هذا إسراف غير ممدوح وأمتنع عن أكله. وجيء له يوماً بصحن فيه نوعٌ من سمك الكافيار فسأل عن ثمنه فقيل له: ألف درهم فأمر أن يُعطى الصحن لأول فقير يمرّ بباب القصر.(٦)