لذلك من كانت حاله على هذا الشكل من التقوى والورع والخوف من الله تعالى لا يجوز عندها اتهامه بالسُّكر ومعاقرة الخمر ومخادنة النساء والانغماس في مجالس اللهو والطرب كما تظهره لنا العديد من الكتب التي شوهت صورته مثل كتاب (الأغاني) المشكوك بأمانة مؤلفه وكتاب (ألف ليلة وليلة) وهو مجموعة أساطير وخرافات (۷). ومنهما استقى العديد من الكتّاب المحدثين أخبارهم وقصصهم عن هارون الرشيد، ولا ننسى البيزنطيين الروم الذين حطم الرشيد كبرياءهم وشتت قوتهم في ذلك الوقت فعمدوا لتشويه صورته حقداً وافتراء ومكيدة فظهر ذلك جلياً في كتب المستشرقين، وأيضاً المؤرخين القدامى الذي كان بعضهم من العلَويين فراح بعضهم يغضُّ الطَّرْف عن مفاخره ومحامده ويدوِّن مناقصه ومثابله (۸) فأظهروه في تلك الكتب "في صورة العربيد الذي لا يفيق وأفاضوا في الحديث عن وصف مجالس اللهو والمجون التي كانت تُعقد في قصره إلى طلوع الشمس، حتّى التصقت قصص (ألف ليلة وليلة) بحياة الرشيد" (۹) وهؤلاء الذين رووا أخبار مُجونه وفِسْقه "هم أنفسهم رُواة تعبًُده وتهجُّده فكيف جاز في أذهانهم أنَّ حياة امرئ مسؤول تتسع لهذين اللونين من الحياة مع وضوح الأدلة على تقواه وظهورها لكل ذي عينين…(١٠).
أما بالنسبة لشربه الخمر يقول ابن خلدون: "إن حال الرشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته، ولقد ثبت أنّه أمر بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتّى تاب وأقلع. وإنما كان يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق وفتاويهم فيها معروفة، أما الخمرة الصرف من العنب فلا سبيل إلى اتهامه بها.. فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرماً من أكبر الكبائر عند أهل الملة"(۱۱). وتفصيل ذلك، عندما نزلت الآية الكريمة: ﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾ "وقف الإسلام يحارب الخمرة، ويحرم السكر، ومع هذا نرى أنّ أسئلة كثيرة أُثيرت حول هذه الآية الكريمة، ما المراد بالخمر؟ أهي عصير العنب وحده، أم كل مُسْكر خمر؟ وما هو القدر المحرم؟، أكل نوع ما يسكر كثيره فقليله حرام؟، أم بعض الأنواع يحل قليله؟ وظهرت في عالم الفقه مسألة النبيذ هل يحل أو لا؟… وظهر الخلاف في عهد الصحابة ومن بعدهم، ورأينا عمر بن عبد العزيز في العهد الأموي يشعر بخطر هذا الخلاف في النبيذ وضرره، فيصدر كتاباً إلى الأمصار يحرم فيه النبيذ.. إلى أن كان عصر الأئمة فكان بينهم الخلاف السابق فذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وابن حنبل رحمهم الله إلى سد الباب بتاتاً ففسروا الخمر في الآية السابقة بما يشمل جميع النبيذ المسكِرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير.. وقالوا: كلّها تسمى خمراً، وكلها محرّمة؛ أما الإمام أبو حنيفة ففسّر الخمر في الآية بعصير العنب مستنداً إلى المعنى اللغوي لكلمة خمر وأحاديث أخرى، وأدّاه اجتهاد إلى تحليل أنواع من الأنبذة… ويظهر أنّ الإمام أبا حنيفة في هذا كان يتبع الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود" (١٢). وسد هذا الباب اليوم نهائياً فحرم جمهور الفقهاء الخمرة بجميع أنواعها. ثمَّ إن الرشيد بدأ بشرب هذا النوع من النبيذ في الأعوام الأخيرة لخلافته وكان يحتسيه في مجلس خاص مع نفر قليل جداً من أقرب جُلاّسِه ولا يراه أحد دون هؤلاء(۱٣).
والرشيد كان يحب الغناء الذي أباحه أهل الحجاز الذين كانوا على مذهب الإمام مالك في ذلك الوقت وكان يطرب له ولكنه غناء له معاني سامية عكس ما نسمعه اليوم من أغانٍ لا معنى لها وكلها تشبيب وعبث ترافقها الموسيقى الصاخبة، وكان لا يجمع في مجالسه تلك بين جواريه والمغنين كما تُظهره لنا الروايات وذلك لغيرته على نسائه بل كان يأمر بوضع ستار كثيف بينه وبين المطربين تحاشياً من صدور حركة منه لا تليق بمكانته كخليفة للمسلمين فمجالس الرشيد كانت معروفة بالتزامه فيها بحدود الشرع لذلك قيل فيه:
رأيه في السماع رأيٌ حجازي وفي الشراب رأي أهل العراق
واليوم انقلبت المفاهيم والقيم وأصبح البعض تحت شعار الانفتاح والتمدن لا يرى حرجاً من الحفلات الموسيقية الراقصة التي يسود فيها الهرج والمرج من شرب الخمرة والرقص والغناء والاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء الكاسيات العاريات.
وإذا كان البعض يُعيب على الرشيد كثرة اتخاذه للجواري والإماء فهذا ما أباحه الشرع من ملك اليمين؛ فهذا النظام الذي أقرّه الإسلام قبل ۱٤٠٠ سنة ﴿والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين﴾ أكرم وأنظف بكثير من البغاء المتفشي اليوم في كل أرجاء العالم، وحتىّ في بلادنا، والذي مُنح رعاية القانون وحمايته؛ فنظام الإماء الذي يَصِفُه البعض بالتخلف، هو أشرف من الإسترقاق الموجود اليوم حين أصبحت المرأة أقل من أمة فهي وتحت شعار الحرية وزعم المساواة أصبحت سلعة تُتاجر بها وسائل الإعلام وجارية للموضة وهذا ما تعتبره المدنية الحديثة اليوم شيئاً حضارياً لا يستنكره أحد (۱٤).
فهارون الرشيد كان عَفّ الضمير طاهر الذيل عن أعراض النساء لم يُسمع عنه قطّ ارتكابه معصية أو فجور، وكان من أشدِّ الناس غيرة على أهله – فأين أصبحت الغيرة في مجتمعنا على الدين والعرض-؟! لذلك كان خاصّته يعرفون ذلك عنه؛ يقول الأصمعي بعث إليّ هارون الرشيد في أمر فدخلتُ عليه فإذا صبية صغيرة بين يديه فقال: أتعرف هذه الصبية؟ قلت: لا أدري، قال: هذه موّاسة ابنة أمير المؤمنين؛ فدعوت لها وله. فقال: قم وقبّل رأسها، فقلت في نفسي: إنْ أطعته أدركته الغَيرة فقتلني وإنْ عصيته قتلني أيضاً فوضعت كمي على رأسها وقَبّّلتُ الكم فابتسم الرشيد وقال: لو أخطأتها لأغضبتني (١٥).
والسؤال المطروح: لماذا صورة الرشيد مشوّهة في أذهاننا اليوم، وما الغرض من هذا التشويه؟ في رأينا إن هنا التشويه كان مقصوداً ومدبَّراً لأنّ ذروة التقدم العلمي والحضاري الذي وصلت إليه الدولة الإسلامية في ذلك الوقت بما فيها من ترف وعزّ وسعادة وسيادة مع القوة والمنعة مما جعلها أقوى دولة في العالم كلّه، والتي قهرت أعداءها شرقاً وغرباً تجسّدت في شخصية الرشيد الخليفة المسلم المؤمن المجاهد الحاجّ لذلك "إن الطعن والتشويه الموجَّه إلى الرشيد طعن وتشويه موجهان ضد الحضارة العربية الإسلامية بالذات، فالطعن في سيرة أعلام المسلمين طعن في الإسلام ذاته يُرضي حقد الحاقدين. إن الطعن المباشر العلني ضد الإسلام طريقة جربها أعداؤه فلم تُجّدِ نفعاً لوحدها فردة الفعل عند المسلمين قوية… لذلك لجؤوا إلى الطعن الخفي والتشويه غير المباشر… فدولة الرشيد التي صورها الحاقدون دولة أبي نواس ودولة الجواري ودولة (ألف ليلة وليلة) ظلماً وبهتاناً هي دولة أعلام العلم والاختراع والحضارة والتي كسبت مكانتها من إسلام حيّ وخليفة ملتزم بشريعة الله" (۱٦)، وإذا كان هارون الرشيد سيء الخلق كما شوهته الكتب وصاحب خمر ولهو ونساء وغير ذلك من ألوان الفَسْق والفجور، فكيف كان يحكم دولة بهذا الاتساع العظيم؟ وكيف خضعت له إمبراطورية الروم بملوكها ودفعوا للمسلمين الجزية السنوية (١۷).
فهل نقبل بعد اليوم سيرة الرشيد كما رسمها الحاقدون لتهميش دور الإسلام وللتقليل من تأثيره في القلوب والنفوس وللحد من فاعليته في المجتمع؟ أم نفخر بسيرته الحقيقية التي رسم ملامحها الإمام مالك والفضيل بن عياض وعبد الله ابن المبارك وأبي يوسف القاضي وغيرهم.
إننا اليوم لن نستطيع هزم قوى الشر المتكالبة علينا ولن نتمكّن من أن نسود من جديد ما دمنا نسمح للآخرين بالتطاول على تراثنا ليغيروه خدمةً لمصالحهم, لن نسود ما دمنا نسمح لهم بكتابة تاريخنا وماضينا ليضعوا لنا حاضراً ميتاً لا روح للإسلام فيه.
بقي أن نقول أن هارون الرشيد تولى الخلافة وعمره ٢٣ سنة ومات عن عمره ٤٥ سنة بعد مرض عُضال ألم به وكان طوال حياته إنساناً كغيره من البشر يخطئ فيستغفر الله ويصيب فيحمده ولكنه لم يظهر منه فيما نقل التاريخ الخروج عن حدود الشرع وتعاليم الإسلام والله يتولى السرائر.
وإذا أطلق الفرنسيون على عصر لويس الرابع عشر (عصر الشمس) أو (النور) وأطلق الأوربيون على القرن السادس عشر وما بعده (عصر النهضة)؛ فالمسلمون سبقوهم حين أطلقوا على أيام الرشيد وعاصمته بغداد (العروس) لبهجتها ونضارة العيش فيها في عهد خلافته رحمه الله وغفر له لأنه كان:
إمامٌ- يخاف الله حتّى كأنّهُ يؤمِّلُ رُؤياه صباح مساء(١۸)
مصادر:
(۱) تاريخ بغداد -الخطيب البغدادي -ج۱٤ ص٦
(٢),(٤) البداية والنهاية - ابن كثير - ج١٠ ص۲۱٥,١۲۸
(٣),(٥),(۱٣) تاريخ الأمم والملوك - الطبري -ج٣ ص٦١۸,۷٤٣,٦۱۲
(۱۱) مقدمة ابن خلدون - ابن خلدون ج١ ص٢٥
(۱٥) تحفة المجالس - السيوطي ص۱۱۷,١١۸
(۱۸) ديوان أبي نواس - أبو نواس ص٤٠۲
المراجع:
(٦),(۷) كتاب (هارون الرشيد) – عبد الجبار الجومرد.
(۷),(١۷) كتاب (هارن الرشيد الخليفة المفترى عليه) – عوض مصطفى قهوجي ص١٠٣,۱٠۲.
(١٠),(۹) كتاب (أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ) د.إبراهيم علي شعوط – ص۲۹۷ ٣١٠.
(۱٢) (ضحى الإسلام) – أحمد أمين – ج۱ – ص۱۱۹
(۱٤) كتاب (شبهات حول الإسلام) – محمد قطب – فصل الإسلام والرَّق.
(١۷),(١٦) كتاب (هارون الرشيد أمير الخلفاء أجل ملوك الدنيا) شوقي أبو خليل – ص١٣۲,۱۲٦,۱۲۷,۱٦۹,١۷٠.
هارون الرشيد هو الخليفة العباسي الخامس، ومن أشهر واعظم الخلفاء العباسيين والعرب. عاش في العراق وحكم بين 786 و809 م. وهو هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. ولد (حوالي 763م - 24 مارس 809م). والدته الخيزران بنت عطاء. وهو أكثر الخلفاء العباسيين جدلاً خلال فترة حكمة، حيث قيل أنه من أكثر خلفاء الدولة العباسية جهادا وغزوا واهتماما بالعلم والعلماء، وعرف عنه أنه الخليفة الذي يحج عاما ويغزو عاما وكان يلقب بأمير المؤمنين.
تُوفي في 3 جمادى الآخر 193هـ، الموافق 4 إبريل 809 م، بعد أن قضى في الخلافة أكثر من ثلاث وعشرين سنة، وتعتبر هذه الفترة العصر الذهبي للدولة العباسية والعالم العربي. وقد دفن في مكان ما وقبره مجهول حتي اليوم.